به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع المستفاد من قوله سبحانه: وَما يَتَضَرَّعُونَ إذ له أن يقول: الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة لله عز وجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الانقياد لأمره عز وجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات، وقيل: ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وقوله سبحانه: وَما يَتَضَرَّعُونَ أيضا، واستكان استفعل من الكون، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا، وقال أبو العباس أحمد بن فارس: سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني: هو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين، وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمي | ومن ذم الرجال بمنتزاح |
أعوذ بالله من العقراب | الشائلات عقد الأذناب |
عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة
، ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا، والوجه في الآية عندي ما تقدم، والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها أخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع، وقدم السمع لكثرة منافعه، وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر، وقيل: أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به