في الصيف»
إلى غير ذلك، وإذا
صح ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من بين عيني جهنم قالوا: يا رسول الله هل لجهنم من عين؟ قال: نعم أما سمعتم الله تعالى يقول: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فهل تراهم إلا بعينين»
كان ما قلناه هو الصحيح. وإسنادها إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه، وروي أنه هنا مسيرة خمسمائة عام. وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس أنه مسيرة مائة عام وحكي (١) ذلك عن السدي والكلبي وروي أيضا عن كعب، وقيل:
مسيرة سنة وحكاه الطبرسي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
، ونسبه في إرشاد العقل السليم إلى السدي. والكلبي سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي صوت تغيظ ليصح تعلق السماع به. وفي مفردات الراغب الغيظ أشد الغضب والتغيظ هو إظهار الغيظ وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما في هذه الآية، وقيل: أريد بالسماع مطلق الإدراك كأنه قيل: أدركوا لها تغظيا وَزَفِيراً هو إخراج النفس بعد مدة على ما في القاموس، وقال الراغب: هو ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه وشاع استعماله في نفس صوت ذلك النفس، ولا شبهة في أنه مما يتعلق به السماع ولذا استشكلوا تعلق السماع بالتغيظ دون الزفير فأولوا لذلك بما سمعت، وقال بعضهم: إن ما ذكر من قبيل قوله:
ورأيت زوجك قد غدا... متقلدا سيفا ورمحا
وهو بتقدير سمعوا لها وأدركوا تغيظا وزفيرا ويعاد كل إلى ما يناسبه. ومن الناس من قال: الكلام خارج مخرج المبالغة بجعل التغيظ مع أنه ليس من المسموعات مسموعا، والتنوين فيه وفي زَفِيراً للتفخيم.
وقد جاء في الآثار ما يدل على شدة زفيرها أعاذنا الله تعالى منها، ففي خبر أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس أنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن عبيد بن عمير أنه قال في قوله تعالى: سَمِعُوا لَها إلخ: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ترعد فرائصه حتى أن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي.
وأخرج أبو نعيم عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة صفوفا فيقول الله تعالى لجبريل عليه السلام: ائت بجهنم فيأتي بها ثم تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهل العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى أن إبراهيم عليه السلام يقول: بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى عليه السلام: بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي ويقول عيسى عليه السلام: بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني ومحمد صلّى الله عليه وسلم يقول: أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي فيجيبه الجليل جلّ جلاله إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فوعزتي لأقرن عينك ثم تقف الملائكة عليهم السلام بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون. وهذه الأخبار ظاهرة في أن النار هي التي تزفر وأن الزفير على حقيقته.
وزعم بعضهم أن زفيرها صوت لهيبها واشتعالها، وقيل: إن كلّا من الرؤية والتغيظ والزفير لزبانيتها ونسبته إليها على حذف المضاف ونقل ذلك عن الجبائي، وقيل: إن قوله تعالى: رَأَتْهُمْ من قوله صلّى الله عليه وسلم إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما وقولهم: دورهم تتراءى وتتناظر كان بعضها يرى بعضا على سبيل الاستعارة بالكناية والمجاز المرسل،

(١) حكاه الطبرسي في مجمع البيان اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon