وأرشدوا لطريق النظر أعرضوا، وفيه بيان فائدة إيراد الأول جملة ظرفية لما في حرف الظرف من الدلالة على التمكن وإيراد الثاني وصفا منتقلا دالا على نوع تجدد، ومنه يظهر ضعف الحمل على أن الظرفية حال من الضمير المستكن في مُعْرِضُونَ قدمت عليه انتهى.
ولا يخفى أن القول باقتضاء العقول أنه لا بدّ من الجزاء لا يتسنى إلا على القول بالحسن والقبح العقليين والأشاعرة ينكرون ذلك أشد الإنكار، وقال بعض الأفاضل: يمكن أن يحمل الإعراض على الاتساع كما في قوله:

عطاء فتى تمكن في المعالي وأعرض في المعالي واستطالا
وذكره بعض المفسرين في قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الإسراء: ٦٧] فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها.
ويمكن أيضا أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [سورة المؤمنون:
١٧] فلا تنافي بين الوصفين. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر، ومِنْ سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية، والقول بأنها تبعيضية بعيد، مِنْ في قوله تعالى: ومِنْ رَبِّهِمْ لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر، وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع مُحْدَثٍ بالجر صفة لذكر.
وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه صفة له أيضا على المحل، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالنصب على أنه حال منه بناء على وصفه بقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِمْ وقوله سبحانه: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يَأْتِيهِمْ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور على ما قيل، وقال نجم الأئمة الرضي: إذا كان الماضي بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد أكثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب على الأسماء فهو بتأويل إلا مكر ما فصار كالمضارع المثبت.
وجوّز أن يكون حالا من المفعول لأنه حامل لضميره أيضا والمعنى لا يأباه وهو خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إنه يحتمل أن يكون صفة لذكر، وكلمة إِلَّا وإن كانت مانعة عند الجمهور إذ التفريغ في الصفات غير جائز عندهم إلا أنه يجوز أن يقدر ذكر آخر بعد إلا فتجعل هذه الجملة صفة له ويكون ذلك بمنزلة وصف المذكور أي ما يأتيهم من ذكر إلا ذكر استمعوه، وقوله تعالى: وَهُمْ يَلْعَبُونَ حال من فاعل اسْتَمَعُوهُ وقوله سبحانه: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ إما حال أخرى منه فتكون مترادفة أو حال من واو يَلْعَبُونَ فتكون متداخلة والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه.
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى «لاهية» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم، والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى، ولاهِيَةً من لهى عن الشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذ سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في الصحاح، وفي الكشاف هي من لهى عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمفعول عنه أصلا بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفلة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوفقوا للإيمان وبقوا في غيابه الخزي والخذلان.
وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى:


الصفحة التالية
Icon