ثانيا: الجرجاني يبرز المضمون ويحلل عناصر الجمال:
ليس الشكل بمعزل عن المضمون، ولا الصياغة بمنأى عن معناها، فهما وجهان لفكرة نبتت في كيان صاحبها حتى إذا نضجت خرجت تؤدي دورها في شكل ألفاظ وجمل وفقرات، وكلما تميز الشكل وتحددت معالمه وضح المضمون وأفصح عن مقاصده، ونضج المضمون يؤدي إلى اختيار الشكل الدقيق القادر على التلبيغ والتأثير، فهما معا يخدمان الغاية التي قصد إليها المتكلم.
والجرجاني هنا أراد أن يبرز بلاغة الفصل والوصل فيسلك سبيلين:
أحدهما: ضبط القواعد لإحكام الشكل.
الآخر: تحليل عناصر الجمال.
وكان ذلك من خلال عرض فني برع في نسج خيوطه، معتمدا على حسن اختيار للشواهد، وعلى التريث أمام مواطن الجمال والصبر على التحليل.
أما حسن الاختيار:
فنراه قد تبدى فيه ذوق الجرجاني المعروف -والاختيار جزء من صاحبه- فهو ذوق فيه رفاهية وثراء وخصوبة، فتارة يستشهد بالآيات القرآنية الكريمة التي ظهر فيها الفصل أو الوصل، بدرجة من الوضوح والجمال تؤكد عمق فهم الجرجاني لفن الفصل والوصل، وتارة يتمثل بأبيات من الشعر اتسمت بالصنعة الفنية المتقنة.
ويبدو أنه قد تأنق في اختيارها وامتحن قدرتها على العطاء قبل تقديمها، انظر إليه يتحدث عن الشعر الشاعر والكلام الفاخر قائلا: ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل في الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنة وطول الباع، وحتى تعلم -إن لم تعلم القائل- أنه من قيل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء


الصفحة التالية
Icon