ولكن هذا لا يقلل من حسن الاختيار وجمال العرض، فالجرجاني له طريقة خاصة في عرض موضوعاته، تعتمد على إقناع القارئ بإثارته وترغيبه واستدراج اهتمامه بمختلف الأدلة والعديد من الشواهد مع الصبر على التحليل، والتكرار الذي يصل إلى درجة الإلحاح في بيان مدى أهمية الفكرة وقيمتها وأسرارها البلاغية، هو لا يُعلِّم قارئه، إنما يسامره في مجلس علم... إن الحديث من القرى.
وهو بارع في التحليل الفني. ومن الصعوبة اختيار مثال على ذلك، فجلها مثير وطويل، ولنأخذ مثالا مختصرا. حين يحلل كيف تأتي الجملة الثانية مفصولة لتؤكد المعنى في الجملة الأولى، يقول: ومن الواضح البين في هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا... ﴾ ١ لم يأت معطوفا نحو "وكأن على أذنيه وقرا" لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلا أن الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد، وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفى أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معهن ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل، ولا شبهة في أن التشبيه بمن "في أذنيه وقر" أبلغ وآكد في جعله كذلك من حيث كان لا يصلح منه السمع -إن أراد ذلك- أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة من الذي يصح منه السمع، إلا أنه لا يسمع إما اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع -فاعرفه وأحسن تدبره٢. وفي بيان سبب فصل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ٣ عن ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ يسطر الصفحات، ويدور مع الآية، ويفتن في التحليل، ثم لا يكتفي بما فعل، فيعلق قائلا "وإذا استقريت وجدت هذا -الذي ذكرت لك، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا منزلته إذا صرح بذلك السؤال- كثيرا، فمن لطيف
٢ الدلائل ٢٢٩.
٣ البقرة: ١٤ و١٥.