وهذا إخبار بالغيب عن أمر في المستقبل، أيده الواقع، وقد نزلت الآيات كما بينا حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل. فبعد نزول سورة الروم سنة ٦٢٢ م ببضع سنين في سنة ٦٢٧ م أحرز هرقل أول نصر حاسم للروم على الفرس في نينوى على نهر دجلة، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم للقسطنطينية، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة ٦٢٨ م على يد ولده (شيرويه).
ولقد كانت هاتان الدولتان مسيطرتين على العالم القديم: فارس في الشرق، والروم في الغرب، وكانتا تتنازعان السيادة على بلاد الشام وغيرها.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي الأمر كله من قبل الغلبة ومن بعدها، فتغلب إحدى الدولتين على الأخرى بقضاء الله وقدره، فهو يقضي في خلقه بما يشاء: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران ٣/ ١٤٠] فليس الانتصار دائما عن قوة مادية ذاتية، وإنما القوة إحدى وسائل النصر، والمعول في النهاية إرادة الله وقدرته، فقد يتغلب الضعيف على القوي، والقليل على الكثير: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ٢/ ٢٤٩].
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم ينتصر الروم النصارى أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى الوثنيين المجوس، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والكتاب على من لا دين له ولا كتاب.
يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي ينصر الله من يريد على الأعداء، فهو الفعال لما يريد، وهو القوي الذي لا يغلب، المنتقم من أعدائه،