وَيَدُلُّ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».
الثَّالِثُ: مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ كَوْنُهُ حُرًّا. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْعَبْدِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي [صَحِيحِهِ] مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ.
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ أُطِيعَ وَأَسْمَعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ، فَإِطْلَاقُ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا أَنْ يَلِيَ ذَلِكَ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا الْجَوَابَ عَنِ الْخَطَّابِيِّ، وَيُشْبِهُ هَذَا الْوَجْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [٤٣ ٨١] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ أَنْ يَكُونَ مُؤَمَّرًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ وَهُوَ أَظْهَرُهَا، فَلَيْسَ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ ; نَظَرًا لِاتِّصَافِهِ بِذَلِكَ سَابِقًا مَعَ أَنَّهُ وَقْتَ التَّوْلِيَةِ حُرٌّ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ الْيُتْمِ عَلَى الْبَالِغِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِهِ سَابِقًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) الْآيَةَ [٤ ٢]، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ. أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِالْقُوَّةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ ; إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ، وَصَوْنًا لِلدِّمَاءِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالزَّبِيبَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاحِدَةُ الزَّبِيبِ الْمَأْكُولِ الْمَعْرُوفِ الْكَائِنِ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا جَفَّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ: التَّحْقِيرُ وَتَقْبِيحُ الصُّورَةِ ; لِأَنَّ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ إِذَا وَجَبَا لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي الْمَعْصِيَةِ كَمَا


الصفحة التالية
Icon