وَمُحْتَمَلٌ، لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِعَدَمِ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَمُرَادُهُ هَذَا رَبِّي فِي زَعْمِكُمُ الْبَاطِلِ، أَوْ أَنَّهُ حَذَفَ أَدَاةَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ بُطْلَانَ الْأَوَّلِ، وَصِحَّةَ الثَّانِي.
أَمَّا بُطْلَانُ الْأَوَّلِ: فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى كَوْنَ الشِّرْكِ الْمَاضِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [٣ ٦٧]، فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَنَفْيُ الْكَوْنِ الْمَاضِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ شِرْكٌ يَوْمًا مَا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ جَازِمًا مُوقِنًا بِعَدَمِ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي، إِلَى آخِرِهِ، «بِالْفَاءِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [٦ ٧٥] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مُوقِنًا مُنَاظِرًا وَمُحَاجًّا لَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [٦ ٨٠]، وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ الْآيَةَ [٦ ٨٣]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١ ١٣]، وَقَوْلُهُ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [١٢ ٢٥٤]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [١٠ ١٠٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الْآيَةَ [٦ ٨١]، وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ، فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٦ ٨٢].
وَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِجَمِيعِ احْتِجَاجَاتِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ الْآيَةَ [٦ ٧٦] ; لِأَنَّ الْأُفُولَ الْوَاقِعَ فِي الْكَوْكَبِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، أَكْبَرُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ حُجَّةٍ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْهَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْأُفُولِ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَعَدَمُ إِدْخَالِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا، غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُمُولِ الْحُجَّةِ لِجَمِيعِ احْتِجَاجَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ صَدَّرَ


الصفحة التالية
Icon