هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [٢٥ ٣١] ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ الْآيَةَ [٢ ١٤]، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مُتَمَرِّدٍ شَيْطَانًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَوْ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»، وَقَوْلُهُ: شَيَاطِينُ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: عَدُوًّا، أَوْ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِـ «جَعَلْنَا»، وَالثَّانِي: «عَدُوًّا»، أَيْ: جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَدُوًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِطَاعَةَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ضَلَالٌ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [١٣ ١]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [١٢ ١٠٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [٣٧ ٧١]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [٢٦ ٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ، التَّحْقِيقُ أَنَّهُ فَصَّلَهُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الْآيَةَ [٦ ١٤٥]، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَا ذَكَّيْتُمْ، وَذَكَرْتُمْ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ؟، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ لَكُمُ الْمُحَرَّمَ أَكْلُهُ عَلَيْكُمْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ [٦ ١٤٥]، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ.
وَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ فَصَّلَهُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الْآيَةَ [٥ ٣]، فَهُوَ غَلَطٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [١١٩]، مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَالْحَقُّ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ مِنْهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا،


الصفحة التالية
Icon