وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا، وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْمَثُلَاثِ - أَيِ الْعُقُوبَاتِ - كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَعْظُمَ رَجَاءُ النَّاسِ فِي فَضْلِهِ، وَيَشْتَدَّ خَوْفُهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، فَاجْتِمَاعُ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ أَدْعَى لِلطَّاعَةِ وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [٦ ١٤٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [٦ ١٥٦ وَ ٧ ١٦٧]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [١٥ ٤٩، ٥٠]، وَقَوْلِهِ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، أَيْ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، أَمَّا هُدَاهُمْ وَتَوْفِيقُهُمْ فَهُوَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [٢ ٢٧٢]، وَقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [١٣ ٤٠]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الْأُمَّةُ، وَالْمُرَادَ بِالْهَادِي الرَّسُولُ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ الْآيَةَ [١٠ ٤٧]، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [٣٥ ٢٤]، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا الْآيَةَ [١٦ ٣٦]، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى.
لَفْظَةُ «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَعْلَمُ الَّذِي تَحْمِلُهُ كُلُّ أُنْثَى. وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُهُ مِنَ الْوَلَدِ عَلَى أَيِّ حَالٍ هُوَ مِنْ ذُكُورَةٍ، وَأُنُوثَةٍ، وَخِدَاجٍ، وَحُسْنٍ، وَقُبْحٍ،