تَنْبِيهٌ.
اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ مِنْ جِنْسِهِ: إِلَّا يَكُونَ اللَّحْمُ مَطْبُوخًا. فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا: جَازَ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَحَيَوَانٍ بِلَحْمِ جِنْسِهِ إِنْ لَمْ يُطْبَخْ. وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ ; بِأَنَّ الطَّبْخَ يَنْقُلُ اللَّحْمَ عَنْ جِنْسِهِ ; فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ ; فَبَيْعُهُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. هَكَذَا يَقُولُونَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُكَلَّلَ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ فِيهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ الْعَامِّ عَلَى خَلْقِهِ عَاطِفًا عَلَى الْأَكْلِ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [١٦ ١٤]، وَهَذَا الْخِطَابُ خِطَابُ الذُّكُورِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [٣٥ ١٢]، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ امْتِنَانًا عَامًّا بِمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ تَعَالَى عَلَى الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ التَّحَلِّي بِالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُكَلَّلَ بِاللُّؤْلُؤِ مَثَلًا، وَلَا أَعْلَمُ لِلتَّحْرِيمِ مُسْتَنَدًا إِلَّا عُمُومَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالزَّجْرِ الْبَالِغِ عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، كَالْعَكْسِ! قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «بَابُ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ». فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَشَبُّهَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ حَرَامٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلْعَنُ أَحَدًا إِلَّا عَلَى ارْتِكَابِ حَرَامٍ شَدِيدِ الْحُرْمَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجُلَ إِذْ لَبِسَ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ تَقْدِيمُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ خَبَرُ آحَادٍ، وَالْمُتَوَاتِرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآحَادِ.


الصفحة التالية
Icon