اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [٢ ٢٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [١٢ ١٠٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا الرُّسُلُ بِالتَّوْحِيدِ مِنْهُمْ سَعِيدٌ، وَمِنْهُمْ شَقِيٌّ. فَالسَّعِيدُ مِنْهُمْ: يَهْدِيهِ اللَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالشَّقِيُّ مِنْهُمْ: يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُكَذِّبُ الرُّسُلَ، وَيَكْفُرُ بِمَا جَاءُوا بِهِ. فَالدَّعْوَةُ إِلَى دِينِ الْحَقِّ عَامَّةٌ، وَالتَّوْفِيقُ لِلْهُدَى خَاصٌّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [١٠ ٢٥]، فَقَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ [١٦ ٣٦]، أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَقَوْلِهِ: مَنْ هَدَى اللَّهُ، أَيْ: وَفَّقَهُ لِاتِّبَاعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ الَّذِي هُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مِنْجَلِي فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبَ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبُ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [١٦ ٣٦]، أَيْ: وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَزِمَتْهُ ; لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الشَّقَاوَةِ. وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالَةِ: الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [٦٤ ٢]، وَقَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [١١ ١٠٥]، وَقَوْلُهُ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [٤٢ ٧٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّنْ نَّاصِرِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ حِرْصَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ لَا يَهْدِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ شَقِيٌّ.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [٢٨ ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥ ٤١]، وَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [٧ ١٨٦]


الصفحة التالية
Icon