عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ... الْآيَةَ [٤٢ ٤٣]، فَهَذَا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [٤٢ ٤٣]، وَقَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [٤ ١٤٨]، فَهَذَا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [٤ ١٤٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ فِي اللُّغَةِ: الْقِسْطُ وَالْإِنْصَافُ، وَعَدَمُ الْجَوْرِ. وَأَصْلُهُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ ; أَيْ: الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. فَمَنْ جَانَبَ الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ فَقَدْ عَدَلَ. وَالْإِحْسَانُ مَصْدَرُ أَحْسَنَ، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً بِالْحَرْفِ نَحْوَ: أَحْسِنْ إِلَى وَالِدَيْكَ ; وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ الْآيَةَ [١٢ ١٠٠]، وَتُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً بِنَفْسِهَا. كَقَوْلِكَ: أَحْسَنَ الْعَامِلُ عَمَلَهُ، أَيْ: أَجَادَهُ وَجَاءَ بِهِ حَسَنًا. وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ لِوَجْهِ اللَّهِ عَمَلٌ أَحْسَنَ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِحْسَانَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي (سُورَةِ هُودٍ).
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاجِعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ; كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ ; لِأَنَّ عِبَادَةَ الْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ هِيَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ وَالْقِسْطِ، وَتَجَنُّبُ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ. وَمَنْ أَدَّى فَرَائِضَ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فَقَدْ أَحْسَنَ ; وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ الَّذِي حَلَفَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»، وَكَقَوْلِ سُفْيَانَ: الْعَدْلُ: اسْتِوَاءُ الْعَلَانِيَةِ وَالسَّرِيرَةِ. وَالْإِحْسَانُ: أَنْ تَكُونَ السَّرِيرَةُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَلَانِيَةِ. وَكَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعَدْلُ: الْإِنْصَافُ. وَالْإِحْسَانُ: التَّفَضُّلُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [١٦ ٩٠]، الْوَعْظُ:: الْكَلَامُ الَّذِي تَلِينُ لَهُ الْقُلُوبُ.
تَنْبِيهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَعْظِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ; كَقَوْلِهِ هُنَا: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [١٦ ٩٠]، مَعَ أَنَّهُ مَا ذَكَرَ إِلَّا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ


الصفحة التالية
Icon