بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ أَفْلَحُوا، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ خَسِرُوا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْفَلَاحَ وَالْخُسْرَانَ هُنَا.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَلَاحِ هُنَا كَوْنُهُ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُسْرَانِ هُنَا كَوْنُهُ فِي الْهَاوِيَةِ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [١٠١ ٦ - ١١].
وَبَيَّنَ أَيْضًا خُسْرَانَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، بِقَوْلِهِ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [٢٣ ١٠٣، ١٠٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْمَعَايِشِ الَّتِي جَعَلَ لَنَا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٨٠ ٢٤ - ٣٢].
وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [٣٢ ٢٧]، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [٢٠ ٥٣، ٥٤].
وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [ ٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ.
الَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، وَ «لَا» صِلَةٌ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سُورَةِ «ص» قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ [ ٧٥]، وَقَدْ أَوْضَحْنَا زِيَادَةَ لَفْظَةِ «لَا» وَشَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ الْبَلَدِ، فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الصفحة التالية
Icon