وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [٣٥ ٣٢].
وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّ إِيرَاثَ هَذَا الْكِتَابِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [١٨ ١]، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْقُرْآنِ عِوَجًا ; أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي، أَخْبَارُهُ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَأَحْكَامُهُ عَدْلٌ، سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَأَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «عِوَجًا» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهِيَ تَعُمُّ نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِوَجِ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [٣٩ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٦ ١١٥]. فَقَوْلُهُ «صِدْقًا» أَيْ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: «عَدْلًا» أَيْ فِي الْأَحْكَامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٤ ٨٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَيِّمًا أَيْ مُسْتَقِيمًا لَا مَيْلَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ قَيِّمًا لَا مَيْلَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [٩٨ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ [١٧ ٩]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١٠ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ١ - ٢]، وَقَوْلِهِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [١١ ١]، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [٤٢ ٥٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.