وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [٤ ١٢٩]، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ أَعْدَاءِ دِينِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ يُلْزِمُهُ الْخِصَامَ وَالشَّغَبَ الدَّائِمَ الْمُفْضِي إِلَى نَكَدِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَرْضَى إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ سَخِطَتِ الْأُخْرَى، فَهُوَ بَيْنُ سَخْطَتَيْنِ دَائِمًا، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَهُوَ كَلَامٌ سَاقِطٌ، يَظْهَرُ سُقُوطُهُ لِكُلِّ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ الْخِصَامَ وَالْمُشَاغَبَةَ بَيْنَ أَفْرَادِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْوَاحِدَةِ. فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ، وَهُوَ فِي جَنْبِ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنْ صِيَانَةِ النِّسَاءِ وَتَيْسِيرِ التَّزْوِيجِ لِجَمِيعِهِنَّ، وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْأُمَّةِ لِتَقُومَ بِعَدَدِهَا الْكَثِيرِ فِي وَجْهِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ كَلَا شَيْءٍ; لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُظْمَى يُقَدَّمُ جَلْبُهَا عَلَى دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الصُّغْرَى.
فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُشَاغَبَةَ الْمَزْعُومَةَ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مَفْسَدَةٌ، أَوْ أَنَّ إِيلَامَ قَلْبِ الزَّوْجَةِ الْأَوْلَى بِالضَّرَّةِ مَفْسَدَةٌ، لَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْمَصَالِحُ الرَّاجِحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ عَاطِفًا عَلَى مَا تُلْفِي فِيهِ الْمَفْسَدَةَ الْمَرْجُوحَةَ فِي جَنْبِ الْمُصْلِحَةِ الرَّاجِحَةِ:

أَوْ رَجَّحَ الْإِصْلَاحَ كَالْأَسَارَى تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى
وَانْظُرْ تَدَلِّي دَوَالِي الْعِنَبِ فِي كُلِّ مَشْرِقِ وَكُلِّ مَغْرِبٍ
فَفِدَاءُ الْأُسَارَى مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَدَفْعُ فَدَائِهِمُ النَّافِعِ لِلْعَدُوِّ مَفْسَدَةٌ مَرْجُوحَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ، أَمَّا إِذَا تَسَاوَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْمُفْسَدَةُ، أَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ أَرْجَحَ كَفِدَاءِ الْأُسَارَى بِسِلَاحٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ الْعَدُوُّ مِنْ قَتْلِ قَدْرِ الْأُسَارَى أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ تُلْغَى لِكَوْنِهَا غَيْرَ رَاجِحَةٍ، كَمَا قَالَ فِي الْمَرَاقِي:
اخْرُمْ مُنَاسِبًا بِمُفْسِدٍ لَزِمْ لِلْحُكْمِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْجُوحٍ عُلِمْ
وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ تُعْصَرُ مِنْهُ الْخَمْرَ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِلَّا أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُودِ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهَا أُلْغِيَتْ لَهَا تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ الْمَرْجُوحَةُ، وَاجْتِمَاعُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ الزِّنَى إِلَّا أَنَّ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ مَصْلَحَةٌ أَرْجَحُ مِنْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ يَجِبُ عَزْلُ النِّسَاءِ فِي مَحَلٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الرِّجَالِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِنَّ حِصْنٌ قَوِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِنَّ مَعَهُ، وَتُجْعَلُ الْمَفَاتِيحُ بِيَدِ أَمِينٍ


الصفحة التالية
Icon