وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [١٣ ٥].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَكِنَّا أَصْلُهُ «لَكِنْ أَنَا» فَحُذِفَتْ هَمْزَةُ «أَنَا» وَأُدْغِمَتْ نُونُ «لَكِنْ» فِي نُونِ «أَنَا» بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى نُونِ «لَكِنْ» فَسَقَطَتِ الْهَمْزَةُ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا، ثُمَّ أُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ! وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ | وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِ |
أَيْ لَكِنْ أَنَا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْتِ مَا ذَكَرَ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَكِنَّنِي فَحَذَفَ اسْمَ
«لَكِنَّ» كَقَوْلِ الْآخَرِ:
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي | وَلَكِنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ |
أَيْ: لَكِنَّكَ زَنْجِيٌّ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى زَنْجِيٌّ بِالرَّفْعِ، وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ لِنَحْوِ هَذَا الْحَذْفِ مِنْ
«لَكِنَّ أَنَا» قَوْلُ الْآخَرِ:
لَهِنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمَةٌ | عَلَى هَنَوَاتٍ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَا |
قَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ
«لَهِنَّكَ» لِلَّهِ إِنَّكَ، فَحَذَفَ إِحْدَى اللَّامَيْنِ مِنْ
«لِلَّهِ»، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ
«إِنَّكَ» نَقْلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، قَرَأَهُ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ
«لَكِنْ»، بِغَيْرِ أَلْفٍ بَعْدَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ
«لَكِنَّا» بِالْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَاهُ الْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ، وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ. وَمَدِّ نُونِ
«أَنَا» لُغَةُ تَمِيمٍ إِنْ كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: إِنَّ إِثْبَاتَ أَلِفِ
«أَنَا» مُطْلَقًا فِي الْوَصْلِ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَغَيْرُهَا يُثْبِتُونَهَا عَلَى الِاضْطِرَارِ، قَالَ: فَجَاءَتْ قِرَاءَةُ
«لَكِنَّا» بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِ مَدِّ
«أَنَا» قَبْلَ غَيْرِ الْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: