قَتْلَهُ، وَحَيِيَ هُوَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا، فَقَتْلُ الْقَاتِلِ يَحْيَا بِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَثْرَةً كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ تَعَالَى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [٢ ١٧٩]، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْدَلِ الطُّرُقِ وَأَقْوَمِهَا، وَلِذَلِكَ يُشَاهِدُ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا قِلَّةُ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ رَادِعٌ عَنْ جَرِيمَةِ الْقَتْلِ. كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَمَا يَزْعُمُهُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِقْلَالَ عَدَدِ الْمُجْتَمَعِ بِقَتْلِ إِنْسَانٍ ثَانٍ بَعْدِ أَنْ مَاتَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ فَيُحْبَسُ، وَقَدْ يُولَدُ لَهُ فِي الْحَبْسِ فَيَزِيدُ الْمُجْتَمَعُ. كُلُّهُ كَلَامٌ سَاقِطٌ، عَارٍ مِنَ الْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الْقَتْلِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ رَادِعَةً فَإِنَّ السُّفَهَاءَ يَكْثُرُ مِنْهُمُ الْقَتْلُ، فَيَتَضَاعَفُ نَقْصُ الْمُجْتَمَعِ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ.
وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّهَا الْيُمْنَى. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يَقْرَءُونَ «فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا».
وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَيَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنَّ سَرَقَ فَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُعَزَّرُ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ قِيمَتِهِ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ» كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأَحَادِيثِ.
وَلَيْسَ قَصْدُنَا هُنَا تَفْصِيلَ أَحْكَامِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِ الْقَطْعِ، كَالنِّصَابِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْيَدَ الْخَبِيثَةَ الْخَائِنَةَ، الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَبْطِشَ وَتَكْتَسِبَ فِي كُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَمَدَّتْ أَصَابِعَهَا الْخَائِنَةَ إِلَى مَالِ الْغَيْرِ لِتَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاسْتَعْمَلَتْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمُودَعَةَ فِيهَا فِي الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْقَبِيحِ، يَدٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ، سَاعِيَةٌ فِي الْإِخْلَالِ بِنِظَامِ الْمُجْتَمَعِ، إِذْ لَا نِظَامَ لَهُ بِغَيْرِ الْمَالِ، فَعَاقَبَهَا خَالِقُهَا بِالْقَطْعِ وَالْإِزَالَةِ ; كَالْعُضْوِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَجُرُّ الدَّاءَ لِسَائِرِ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ يُزَالُ بِالْكُلِّيَّةِ إِبْقَاءً عَلَى الْبَدَنِ وَتَطْهِيرًا لَهُ مِنَ الْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ يُطَهِّرُ السَّارِقَ مِنْ دَنَسِ ذَنْبِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ السَّرِقَةِ، مَعَ الرَّدْعِ الْبَالِغِ


الصفحة التالية
Icon