فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [٣ ٣٩]، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْمِحْرَابُ: أَرْفَعُ الْمَوَاضِعِ، وَأَشْرَفُ الْمَجَالِسِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْمَحَارِيبَ فِيمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ اهـ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَحَارِيبُ: صُدُورُ الْمَجَالِسِ، وَمِنْهُ سُمِّي مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، وَالْمِحْرَابُ: الْغُرْفَةُ، قَالَ وَضَّاحُ الْيَمَنِ:
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا | لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّمًا |
ؤتَنْبِيهٌ
أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَشْرُوعِيَّةَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ الْمِحْرَابَ مَوْضِعُ صَلَاةِ زَكَرِيَّا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [٣ ٣٩]، وَالْمِحْرَابُ أَرْفَعُ مِنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ارْتِفَاعَ إِمَامِهِمْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، مُتَمَسِّكًا بِقِصَّةِ الْمِنْبَرِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الِارْتِفَاعِ الْكَثِيرِ دُونَ الْيَسِيرِ، وَعَلَّلَ أَصْحَابُهُ الْمَنْعَ بِخَوْفِ الْكِبْرِ عَلَى الْإِمَامِ.
قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا، أَوْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، ذَكَرْتُ ذَلِكَ حِينَ مَدَدْتَنِي، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارُ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: لِذَلِكَ اتَّبَعْتُكَ حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ.
قُلْتُ: فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَخْبَرُوا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِحَدِيثِ الْمِنْبَرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ: أَنَّ فِيهِ عَمَلًا زَائِدًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ النُّزُولُ وَالصُّعُودُ، فَنُسِخَ كَمَا نُسِخَ الْكَلَامُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا