اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مَعَ بَعْضِ صِفَاتِهِ وَلَهُ صِفَاتٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّا نُبَيِّنُهَا، وَقَدْ مَرَّ فِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهَا فِي الْمَوْصُوفَاتِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا الْأَعْلَامِ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَعْلَامِ كَمَا هُنَا فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْضَ صِفَاتِ يَحْيَى، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ مِنْهَا هُنَا، وَالْمَذْكُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [١٩ ١٢]، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، فَقَوْلُهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، أَيْ: خُذِ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ، أَيْ: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ بِتَفَهُّمِ الْمَعْنَى أَوَّلًا حَتَّى يَفْهَمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا: التَّوْرَاةُ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى يَحْيَى، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّمَةَ، وَقِيلَ: هُوَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ الْحُكْمَ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْفَهْمَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ: إِدْرَاكَ مَا فِيهِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ صَبِيًّا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا فَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعْطَيْنَاهُ الْفَهْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَسْنَانَ الرِّجَالِ، وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ أَحَدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الصِّبْيَانَ قَالُوا لِيَحْيَى: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ: