قَوْلِهِ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [٢٨ ١٩]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَصِيًّا» فَعُولٌ قُلِبَتْ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ: الَّتِي عَقَدَهَا ابْنُ مَالِكِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرُ مَا قَدْ رُسِمَا
فَأَصْلُ «عَصِيًّا» عَلَى هَذَا «عَصُويًا» كَصَبُورٍ، أَيْ: كَثِيرَ الْعِصْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ فَعِيلًا وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [١٩ ١٥]، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ، أَيْ: أَمَانٌ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَمَانِ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصَّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمِ الْحَوْلِ.
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَرْجِعُ الْقَوْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ مَعْنَى سَلَامٌ، التَّحِيَّةُ، الْأَمَانُ، وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْأَمَانُ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَمَانَ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ مَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ، تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْيَى وَمَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ، وَقَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالسَّلَامِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ وِلَادَتِهِ، وَوَقْتُ مَوْتِهِ، وَوَقْتُ بَعْثِهِ، فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ الْآيَةَ ; لِأَنَّهَا أَوْحَشُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ، قَالَ: فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِيهَا، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنْ عِيسَى وَيَحْيَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: انْتَزَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّسْلِيمِ فَضْلَ عِيسَى بِأَنْ قَالَ إِدْلَالُهُ


الصفحة التالية
Icon