الثَّالِثُ: أَنَّ الْوُرُودَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا وَالْقُرْبُ مِنْهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ الْوُرُودِ هُوَ حُرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَلَبَتُهُ فِيهِ دَلِيلٌ اسْتِقْرَائِيٌّ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ وُرُودَ النَّارِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الدُّخُولُ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ «الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ هُوَ الدُّخُولُ» ؛ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [١١ ٩٨]، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ دُخُولٍ، وَكَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [٢١ ٩٩]، فَهُوَ وُرُودُ دُخُولٍ أَيْضًا، وَكَقَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [١٩ ٨٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [٢١ ٦٨]، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ فِي «أَنَّ الْوُرُودَ الدُّخُولُ».
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ: الْإِشْرَافُ وَالْمُقَارَبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ الْآيَةَ [٢٨ ٢٣]، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ مُقَارَبَةٍ وَإِشْرَافٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ الْآيَةَ [١٢ ١١]، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ
قَالُوا: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَرَدَتِ الْقَافِلَةُ الْبَلَدَ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهُ وَلَكِنْ قَرُبَتْ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَيْسَ نَفْسَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [٢١ ١٠١ - ١٠٢]، قَالُوا: إِبْعَادُهُمْ عَنْهَا الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِمْ فِيهَا ; فَالْوُرُودُ غَيْرُ الدُّخُولِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ وُرُودَ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: حَرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ


الصفحة التالية
Icon