الْمُسْتَدِلُّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ الْحَصْرِ؟ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: بَحَثْتُ بَحْثًا تَامًّا عَنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُ، أَوْ قَالَ: الْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِ مَا ذَكَرْتَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يَكْفِيهِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ، فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا أَعْلَمُ وَصْفًا زَائِدًا لَمْ تَذْكُرْهُ، قِيلَ لَهُ: بَيِّنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ سَقَطَ اعْتِرَاضُهُ، وَإِنَ بَيَّنَ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ بَطَلَ حَصْرُ الْمُسْتَدِلِّ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ الْوَصْفَ الزَّائِدَ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَلِيَّةِ فَيَكُونُ إِذًا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ قَوْلُهُ: بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذَا - خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى هَذَا الْمَسْلَكِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ:

وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ قِسْمٌ رَابِعْ أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ فِيهِ جَامِعْ
وَيَبْطُلُ الَّذِي لَهَا لَا يَصْلُحْ فَمَا بَقِي تَعْيِينُهُ مُتَّضِحْ
مُعْتَرِضُ الْحَصْرِ فِي دَفْعِهِ يَرِدْ بَحَثْتُ ثُمَّ بَعْدَ بَحْثِي لَمْ أَجِدْ
أَوِ انْفِقَادُ مَا سِوَاهَا الْأَصْلُ وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ لِظَنٍّ حَظْلُ
وَهُوَ قَطْعِيٌّ إِذَا مَا نُمِّيَا لِلْقِطْعِ وَالظَّنِّيِّ سِوَاهُ وُعِّيَا
حُجِّيَّةُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ
إِنْ يُبْدِ وَصْفًا زَائِدًا مُعْتَرِضْ وَفَّى بِهِ دُونَ الْبَيَانِ الْغَرَضْ
وَقَطْعُ ذِي السَّبْرِ إِذَا مُنْحَتِمْ وَالْأَمْرُ فِي إِبْطَالِهِ مُنْبَهِمْ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ «فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ» مَحِلُّهُ مَا لَمْ يَدَّعِ الْمُنَاظِرُ عِلَّةً غَيْرَ عِلَّتِهِ، وَإِنِ ادَّعَاهَا فَلَا تَكُونُ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَكَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا «وَرَدُّهُ انْتَفَى...» إِلَخْ.
وَإِذَا حَصَلَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَإِبْطَالُ غَيْرِ الصَّالِحِ مِنْهَا لَهُ طُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ:
مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الْوَصْفَ طَرْدِيٌّ مَحْضٌ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِي ثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَابِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَالْأُنْثَى، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا - أَيْ: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَصْلًا - بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ دُونَ بَعْضِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.


الصفحة التالية
Icon