وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنَ الرَّحْمَنِ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ «مِنْ» هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بَدَلَ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: بَدَلَ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي غَيْرَهُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ كَثِيرٍ لِذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:

جَارِيَةٌ لَمْ تَلْبَسِ الْمُرَقَّقَا وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
أَيْ لَمْ تَذُقْ بَدَلَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [٩ ٣٨] أَيْ: بَدَلَهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفَصِيلِ غُلُبَّةً ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفِيلَا
يَعْنِي: أَخَذُوا فِي الزَّكَاةِ الْمَخَاضَ بَدَلَ الْفَصِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: يَحْفَظُكُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ وَبَأْسِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [١١ ٦٣] أَيْ: مَنْ يَنْصُرُنِي مِنْهُ فَيَدْفَعُ عَنِّي عَذَابَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، وَهُوَ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْرِيرَ. فَوَجْهُ كَوْنِهِ إِنْكَارِيًّا أَنَّ الْمَعْنَى: لَا كَالِئَ لَكُمْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وُوجْهُ كَوْنِهِ تَقْرِيرِيًّا أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ؟ اضْطُرُّوا إِلَى أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الَّذِي يَكْلَؤُهُمْ هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُخْلِصُونَ لَهُ الدُّعَاءَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، وَلَا يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» وَغَيْرِهَا. فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، كَيْفَ يَصْرِفُونَ حُقُوقَ الَّذِي يَحْفَظُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى مَا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَحْرُسُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَافِظَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [١٣ ١١] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا الْآيَةَ [٤٨ ١١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [٣٣ ١٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ


الصفحة التالية
Icon