وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ؛ أَيْ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بِهَذَا النَّقْلِ مَنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، كَمَالَ قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تُرَابٍ أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثَانِيًا، مَعَ مَا بَيْنَ النُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ مِنَ الْمُنَافَاةِ وَالْمُغَايَرَةِ، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النُّطْفَةَ عَلَقَةً، مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ وَالتَّغَايُرِ، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، وَالْمُضْغَةَ عِظَامًا، فَهُوَ قَادِرٌ بِلَا شَكٍّ عَلَى إِعَادَةِ مَا بَدَأَهُ مِنَ الْخَلْقِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ: لِنُبَيِّنَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ «خَلَقْنَاكُمْ» فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ؛ أَيْ: خَلَقْنَاكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَى التَّدْرِيجِ الْمَذْكُورِ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قُدْرَتَنَا عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُبَيِّنًا نُكْتَةَ حَذْفِ مَفْعُولِ «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ» مَا نَصُّهُ: وَوُرُودُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُعَدًّى إِلَى الْمُبَيَّنِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ هَذِهِ يَتَبَيَّنُ بِهَا مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ مَا لَا يَكْتَنِهُهُ الذِّكْرُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [٢٢ ٥] ؛ أَيْ: نُقِرُّ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ مَا نَشَاءُ إِقْرَارَهُ فِيهَا مِنَ الْأَحْمَالِ وَالْأَجِنَّةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى؛ أَيْ: مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ فِي عِلْمِنَا، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِوَضْعِ الْجَنِينِ، وَالْأَجِنَّةُ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، فَتَارَةً تَضَعُهُ أُمُّهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَتَارَةً لِتِسْعَةٍ، وَتَارَةً لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ إِقْرَارَهُ مِنَ الْحَمْلِ مَجَّتْهُ الْأَرْحَامُ وَأَسْقَطَتْهُ، وَوَجْهُ رَفْعِ «وَنُقِرُّ» أَنَّ الْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى قَوْلِهِ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةً لِمَا قَبْلَهُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ: خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، لِنُقِرَّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ رَفْعُهُ، وَعَدَمُ نَصْبِهِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَنُقِرُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى: لِنُبَيِّنَ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي نَفَيْنَاهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَيُؤَيِّدُ مَعْنَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا؛ أَيْ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، ثُمَّ يَكْسُو الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ يُنْشِئُ ذَلِكَ الْجَنِينَ خَلْقًا آخَرَ، فَيُخْرِجُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِوَضْعِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِفْلًا؛ أَيْ: وَلَدًا بَشَرًا سَوِيًّا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ؛ أَيْ: لِتَبْلُغُوا كَمَالَ قُوَّتِكُمْ وَعَقْلِكُمْ وَتَمْيِيزِكُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَعَدَمِ عِلْمِ شَيْءٍ.


الصفحة التالية
Icon