يَقُولُ: يَقْتَضِي النَّدْبَ. وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُفْعَلْ لِلتَّشْرِيعِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ الْفِعْلُ التَّشْرِيعِيُّ الْمَحْضُ. وَهُوَ الَّذِي فُعِلَ لِأَجْلِ التَّأَسِّي وَالتَّشْرِيعِ، كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ مَعَ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْفِعْلُ الْمُحْتَمِلُ لِلْجِبِلِّيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ. وَضَابِطُهُ: أَنْ تَكُونَ الْجِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةُ تَقْضِيهِ بِطَبِيعَتِهَا، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ مُتَعَلِّقًا بِعِبَادَةٍ بِأَنْ وَقَعَ فِيهَا أَوْ فِي وَسِيلَتِهَا، كَالرُّكُوبِ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّ رُكُوبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ مُحْتَمِلٌ لِلْجِبِلَّةِ ; لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي الرُّكُوبَ، كَمَا كَانَ يَرْكَبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ بِذَلِكَ الرُّكُوبِ، بَلْ لِاقْتِضَاءِ الْجِبِلَّةِ إِيَّاهُ، وَمُحْتَمِلٌ لِلشَّرْعِيِّ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِالْحَجِّ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ». وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالرُّجُوعُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى غَيْرِ الَّتِي ذَهَبَ فِيهَا إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، وَالضِّجْعَةُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، بَيْنَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَدُخُولُ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ - بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ - وَالْخُرُوجُ مِنْ كُدًى - بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ - وَالنُّزُولُ بِالْمُحَصَّبِ بَعْدَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لِاحْتِمَالِهَا لِلْجِبِلِّيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:

وَفِعْلُهُ الْمَرْكُوزُ فِي الْجِبِلَّهْ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ مِلَّهْ
مِنْ غَيْرِ لَمْحِ الْوَصْفِ وَالَّذِي احْتَمَلْ شَرْعًا فَفِيهِ قُلْ تَرَدُّدٌ حَصَلْ
فَالْحَجُّ رَاكِبًا عَلَيْهِ يَجْرِي كَضِجْعَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ، إِلَّا فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَالْمَشْيُ فِيهِمَا وَاجِبٌ.
وَقَالَ سَنَدٌ وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ لِلْمَشَقَّةِ، وَرُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبِلِّيٌّ لَا تَشْرِيعِيٌّ.
وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ.


الصفحة التالية
Icon