ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَيُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ، وَجَزَمَ بِهِ هُنَا، وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَأَقَرَّ فِي شُرُوحِهِ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ الْبِسَاطِيُّ وَالشَّيْخُ زَرُّوقٌ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ ابْنُ غَازِيٍّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَطَّابُ أَيْضًا: وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَقَبِلَهُمَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنُ فَرْجُونٍ، وَصَاحِبُ الشَّامِلِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ بِالسُّقُوطِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَشْهِيرِهِ، وَكَذَلِكَ شُرَّاحُ الْمُخْتَصَرِ. اهـ مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ بِالسُّقُوطِ، يَعْنِي: سُقُوطَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَمَّنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ وَالْإِعْطَاءُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي مِنْ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي عَادَتُهُ السُّؤَالُ فِي بَلَدِهِ وَعَادَةُ النَّاسِ إِعْطَاؤُهُ، إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ إِعْطَاءَهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ كَمَا كَانُوا يُعْطُونَهُ فِي بَلَدِهِ، أَنَّهُ يُعَدُّ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا، وَأَنَّ تَحْصِيلَهُ زَادَهُ بِذَلِكَ السُّؤَالِ يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ وَالْإِعْطَاءَ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَجُّ، بَلْ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، مَا نَصُّهُ:
قُلْتُ: وَنُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مُصَرِّحَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ، إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ إِعْطَاءَهُ، ثُمَّ سَرَدَ كَثِيرًا مِنْ نُقُولِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مُصَرِّحَةً بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ السُّؤَالُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى كَسْبِ مَا يَعِيشُ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ لَمَّا كَانَ جَائِزًا لَهُ، وَصَارَ عَيْشُهُ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَهُوَ بِذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْإِعْطَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ. قَالُوا: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ جَائِزٍ لَزِمَهُ الْحَجُّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعِيشُ فِي طَرِيقِهِ بِتَكَفُّفِ النَّاسِ، وَأَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ الْآيَةَ [٩ ٩١]، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ


الصفحة التالية
Icon