أَحَدُهَا: يُغَرَّبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَنَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَالثَّانِي: يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ ٢٥]، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِهِ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: لَا يُغَرَّبُ الْمَمْلُوكُ أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ «: فَلْيَجْلِدْهَا»، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْيَ، وَلِأَنَّ نَفْيَهُ يَضُرُّ سَيِّدَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ حَدِيثِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلنَّفْيِ، وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا، وَحُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى مُوَافَقَتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَانْظُرْهُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ: مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ، مُتَّفِقُونَ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ، وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي تَغْرِيبِ الْإِنَاثِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ.
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُغَرَّبُ الْبِكْرُ الزَّانِي سَنَةً، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِيهِمَا وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَجِيرًا عِنْدَهُ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِوَايَةِ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ أَنَّهُ أَقْسَمَ لَيَقْضِيَنَّ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلْدَ ذَلِكَ الزَّانِي الْبِكْرَ مِائَةً وَتَغْرِيبَهُ عَامًا، وَهَذَا أَصَحُّ نَصٍّ وَأَصْرَحُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَفِيهِ «: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ»، وَهُوَ أَيْضًا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى عَدَمِ التَّغْرِيبِ بِأَدِلَّةٍ:


الصفحة التالية
Icon