بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ صَبَبْتُ لَكَ شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمَلَامِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا خَفْضُ الْجَنَاحِ الْمُتَّصِفِ بِالذُّلِّ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِهِمَا، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَحَاتِمِ الْجُودِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: مَطَرَ السَّوْءِ [٢٥ ٤٠] وَعَذَابَ الْهُونِ [٦ ٩٣] أَيْ: مَطَرَ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ الْمَوْصُوفَ بِسَوْئِهِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ الْمَوْصُوفَ بِهَوْنِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَالْمُسَوِّغُ لِإِضَافَةِ خُصُوصِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ مَعَ أَنَّ الذُّلَّ مِنْ صِفَةِ الْإِنْسَانِ لَا مِنْ صِفَةِ خُصُوصِ الْجَنَاحِ، أَنَّ خَفْضَ الْجَنَاحِ كُنِّيَ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْإِنْسَانِ، وَتَوَاضُعِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً بِهِمَا، وَإِسْنَادُ صِفَاتِ الذَّاتِ لِبَعْضِ أَجْزَائِهَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَإِسْنَادِ الْكَذِبِ وَالْخَطِيئَةِ إِلَى النَّاصِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [٩٦ ١٦] وَكَإِسْنَادِ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [٨٨ ٢ - ٣] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «الصَّوَاعِقِ» : إِنَّ مَعْنَى إِضَافَةِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ أَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا مَعْنَوِيًّا يُنَاسِبُهُ لَا جَنَاحَ رِيشٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، انْتَهَى. وَفِيهِ إِيضَاحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إِضَافَةَ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ ; كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ»، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ قُلْتَ: الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ، فَمَا قَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَنْ يُسَمِّيَهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ مُؤْمِنِينَ، لِمُشَارَفَتِهِمْ ذَلِكَ. وَأَنْ يُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ صَدَّقَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَصِنْفٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إِلَّا التَّصْدِيقُ فَحَسْبُ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ أَوْ فَاسِقِينَ، وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ، لَا يُخْفَضُ لَهُمَا الْجَنَاحُ.
وَالْمَعْنَى: الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَشِيرَتِكَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ: أَنْذِرْ قَوْمَكَ فَإِنِ اتَّبَعُوكَ وَأَطَاعُوكَ، فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَإِنْ عَصَوْكَ وَلَمْ يَتَّبِعُوكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى مِنْهُ.


الصفحة التالية
Icon