فَقَالَتْ أَلَا يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بِخُطْبَةٍ | فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي |
يَعْنِي: أَلَا يَا هَذَا اسْمَعْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ | وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ |
بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: لَعْنَةُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَيَا لَغَيْرُ اللَّعْنَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ: يَا قَوْمُ لَعْنَةُ اللَّهِ، إِلَى آخِرِهِ. وَأَنْشَدَ صَاحِبُ اللِّسَانِ لِحَذْفِ الْمُنَادَى، مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ مُسْتَشْهِدًا لِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَا قَاتَلَ اللَّهُ صِبْيَانًا تَجِيءُ بِهِمْ | أُمُّ الْهُنَيْنِينَ مِنْ زَنْدَلِهَا وَارَى |
ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ أَرَادَ: يَا قَوْمُ قَاتَلَ اللَّهُ صِبْيَانًا، وَقَوْلَ الْآخَرِ:
يَا مَنْ رَأَى بَارِقًا أُكَفْكِفُهُ | بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ |
ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ دَعَا يَا قَوْمُ يَا إِخْوَتِي، فَلَمَّا أَقْبَلُوا عَلَيْهِ قَالَ: مَنْ رَأَى. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِحَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ، قَوْلَ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
يَا شَاةَ مَا قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ | حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ |
قَالُوا: التَّقْدِيرُ: يَا قَوْمُ انْظُرُوا شَاةَ مَا قَنَصٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: إِنَّ يَا عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، وَفِي جَمِيعِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَيْسَتْ لِلنِّدَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّنْبِيهِ فَكُلٌّ مِنْ أَلَا وَيَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ كُرِّرَ لِلتَّوْكِيدِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي
«الْبَحْرِ الْمُحِيطِ»، قَالَ فِيهِ: وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الْوَارِدِ عَنِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ يَا فِيهِ لِلنِّدَاءِ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى ; لِأَنَّ الْمُنَادَى عِنْدِي لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ فِي النِّدَاءِ، وَانْحَذَفَ فَاعِلُهُ لِحَذْفِهِ، وَلَوْ حُذِفَ الْمُنَادَى لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَذْفُ جُمْلَةِ النِّدَاءِ، وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ الْمُنَادَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا كَبِيرًا، وَإِذَا أَبْقَيْنَا الْمُنَادَى وَلَمْ نَحْذِفْهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّدَاءِ، وَلَيْسَ حَرْفُ النِّدَاءِ حَرْفَ جَوَابٍ كَنَعَمْ، وَلَا، وَبَلَى، وَأَجَلْ، فَيَجُوزُ حَذْفُ الْجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْجُمَلِ الْمَحْذُوفَةِ، فَيَا عِنْدِي فِي تِلْكَ التَّرَاكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أَكَّدَ بِهِ أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ وَلِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وَجَدَ التَّوْكِيدَ فِي اجْتِمَاعِ