وَأَحْرَى، وَاسْتِدْلَالُهُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ سُؤَالَ السَّائِلِ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ تَلْقِينَ الْمُلَقِّنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِهِ سُؤَالَ الْمَلِكِ وَسَمَاعِهِ التَّلْقِينَ مِنَ الدَّافِنِينَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا أَهْلُ الشَّامِ، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّ النَّاسَ تَبِعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَتَلْقِينُهُ الشَّهَادَةَ) وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِاسْتِحْبَابِ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ الطِّلَاعِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَقَدْ رُوِّينَا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِالشَّوَاهِدِ، وَعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ ; لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، إِذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلَيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ، فَيَتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْقَبْرِ، فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطِّلَاعِ الْمَالِكِيِّ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: وَاسْتَحَبَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَالثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَبِي... فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي كِتَابِ «الْإِيمَانِ» مَيْلٌ إِلَيْهِ، انْتَهَى مِنَ الْحَطَّابِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
قَالَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شَمَّاسَةَ


الصفحة التالية
Icon