الْأَوَّلُ: سِيَاقُ الْآيَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِأَزْوَاجِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ أَيْضًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ عَامَّةَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَسَّرُوا الْآيَةَ مَعَ بَيَانِهِمْ سَبَبَ نُزُولِهَا، بِأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُنْ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ خَارِجَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْضُ الْفُسَّاقِ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإِمَاءِ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْحَرَائِرِ، وَكَانَ بَعْضُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجْنَ فِي زِيٍّ لَيْسَ مُتَمَيَّزًا عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، فَيَتَعَرَّضُ لَهُنَّ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ بِالْأَذَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُنَّ إِمَاءٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَمَيَّزْنَ فِي زِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ وَرَآهُنَّ الْفُسَّاقُ، عَلِمُوا أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرُ لَا إِمَاءَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، فَهِيَ مَعْرِفَةٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالشَّخْصِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُنْسَجِمٌ مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، كَمَا تَرَى.
فَقَوْلُهُ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لِأَنَّ إِدْنَائِهِنَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرَ، فَهُوَ أَدْنَى وَأَقْرَبُ لِأَنْ يُعْرَفْنَ، أَيْ: يُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، فَلَا يُؤْذَيْنَ مِنْ قِبَلِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإِمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَعَرُّضَ الْفُسَّاقِ لِلْإِمَاءِ جَائِزٌ، هُوَ حَرَامٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَعَرِّضِينَ لَهُنَّ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [٣٣ ٦٠]، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، إِلَى قَوْلِهِ: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [٣٣ ٦٠ - ٦١].
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَرِّضَ لِمَا لَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الْآيَةَ [٣٣ ٣٢]، وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

حَافِظٌ لِلْفَرْجِ رَاضٍ بِالتُّقَى لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضْ
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِ الْحَرَائِرِ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ الْإِمَاءِ لِيَهَابَهُنَّ الْفُسَّاقُ، وَدَفْعُ ضَرَرِ الْفُسَّاقِ عَنِ الْإِمَاءِ لَازِمٌ، وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرَ لَيْسَ مِنْهَا إِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ.
تَنْبِيهٌ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ،


الصفحة التالية
Icon