وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ الْآيَةَ [١٤ ٣٢]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ [٥٠ ٩ - ١١].
وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ الرِّزْقَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِمَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَمَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ ; لِأَنَّ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ، يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ لِلنَّاسِ الِانْتِفَاعُ بِلُحُومِهَا، وَجُلُودِهَا وَأَلْبَانِهَا، وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [٣٢ ٢٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [١٦ ١٠ - ١١].
فَقَوْلُهُ: فِيهِ تُسِيمُونَ، أَيْ: تَتْرُكُونَ أَنْعَامَكُمْ سَائِمَةً فِيهِ، تَأْكُلُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَكَلَّفُوا لَهَا مَئُونَةَ الْعَلَفِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ الْآيَةَ [٢٠ ٥٣ - ٥٤]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ ٣١ - ٣٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ النَّاسَ مَا يَتَذَكَّرُ مِنْهُمْ، أَيْ: مَا يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ.
وَالْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُنِيبُونَ، الْمُتَذَكِّرُونَ، الْمُتَّعِظُونَ، هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [٣ ٧] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [١٤ ٥٢]


الصفحة التالية
Icon