وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [٧١ ٥ - ٧] وَقَوْلُهُ هُنَا: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي سَأَلَ رَبَّهُ إِيَّاهُ هُوَ إِهْلَاكُ الْكُفَّارِ، وَإِنْجَاؤُهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [٥٤ ١٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [٧١ ٢٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا عَنْ نُوحٍ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَجَابَ دُعَاءَهُ هَذَا ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [٢٩ ١٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [٣٧ ٧٥ - ٧٦] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [٢٩ ١٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [١١ ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:

شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
وَالْفُلْكُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ جَازَ تَذْكِيرُهُ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَإِنْ جُمِعَ أُنِّثَ، وَالْمُرَادُ بِالْفُلْكِ هُنَا السَّفِينَةُ ; كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [٢٩ ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ مَدْيَنُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَتْهَا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ قِصَّةَ شُعَيْبٍ مَعَ مَدْيَنَ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ قَالَ هُنَا لِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [٢٦ ١٨١ - ١٨٣] وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ لِمَدْيَنَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا


الصفحة التالية
Icon