لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّيِّبَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَجَازَ لَهُمُ التَّمَتُّعَ بِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهَا خَاصَّةً بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٧ ٣٢].
فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ أَنَّ تَمَتُّعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّنَعُّمِ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُذْهِبُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا.
وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ يُعَانِي شِدَّةَ الْفَقْرِ فِي الدُّنْيَا كَأَصْحَابِ الصُّفَّةِ، يَكُونُ لَهُمْ أَجْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْجَرُونَ بِمَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي يُذْهِبُ طَيِّبَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ يُجْزَى فِي الدُّنْيَا فَقَطْ كَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ - قَدْ قَدَّمْنَاهَا مُوَضَّحَةً فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَسَانِيدَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَأَلْفَاظَهُ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أَيْ عَذَابَ الْهَوَانِ، وَهُوَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِمَا كُنْتُمْ - سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ تُجْزُونَ عَذَابَ الْهُونِ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ، وَكَوْنِكُمْ فَاسِقِينَ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الِاسْتِكْبَارِ فِي الْأَرْضِ وَالْفِسْقِ مِنْ أَسْبَابِ عَذَابِ الْهُونِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [٣٩ ٦٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ الْآيَةَ [٣٢ ٢٠].
وَقَدْ قَدَّمْنَا النَّتَائِجَ الْوَخِيمَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ التَّكَبُّرِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا الْآيَةَ [٧ ١٣].


الصفحة التالية
Icon