وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [١٧ ٥١]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، كَخَلْقِ النَّاسِ أَوَّلًا، وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَالْحَجِّ وَالْجَاثِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [١١ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
قَوْلُهُ إِذْ: مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَقْرَبُ، أَيْ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَلَقَّى فِيهِ الْمَلَكَانِ جَمِيعَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي وَقْتِ كِتَابَةِ الْحَفَظَةِ أَعْمَالَهُ لَا حَاجَةَ لَهُ لِكُتُبِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِكِتَابَةِ الْحَفَظَةِ لِلْأَعْمَالِ لِحِكَمٍ أُخْرَى كَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ ١٣ - ١٤]، وَمَفْعُولُ التَّلَقِّي فِي الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يَتَلَقَّى، وَالْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْمُتَلَقِّيَانِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ جَمِيعَ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ فَيَكْتُبَانِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّلَقِّي التَّلَقُّنُ بِالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ اهـ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ لِأَنَّ الْمَلَكَ يَتَلَقَّى عَمَلَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ صُدُورِهِ مِنْهُ فَيَكْتُبُهُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَلَقِّيَانِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ مَقْعَدَ أَحَدِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ وَمَقْعَدَ الْآخَرِ عَنْ شِمَالِهِ.