أَوْ كَرْهًا»، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُطِيعُ بِاخْتِيَارِهِ وَالْكَافِرَ مُذْعِنٌ مُنْقَادٌ لِقَضَاءِ رَبِّهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [١٣ ١٥]، وَالسُّجُودُ وَالْعِبَادَةُ كِلَاهُمَا خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وَبَعْضَهُمْ يَفْعَلُهُ كَرْهًا.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيٌّ إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [٤٣ ٨٧]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَثْرَتَهُ فِيهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩].
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ إِلَّا لِآمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي فَيَعْبُدُنِي مَنْ وَفَّقْتُهُ مِنْهُمْ لِعِبَادَتِي دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَإِرَادَةُ عِبَادَتِهِمُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ - إِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ الْمُلَازِمَةُ لِلْأَمْرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَنْ أَمَرَتْهُمُ الرُّسُلُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لَا إِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَعَبَدَهُ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أَيْ إِلَّا لِآمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي وَأَبْتَلِيهِمْ أَيْ أَخْتَبِرُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، ثُمَّ أُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [١١ ٧]، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [١١ ٧].


الصفحة التالية
Icon