ضِرَارَ» وَلِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ أَرْجَحَ، فَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَأَلْغِ إِنْ يَكُ الْفَسَادُ أَبْعَدَا

أَوْ رَجِّحِ الْإِصْلَاحَ كَالْأُسَارَى تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى
وَانْظُرْ تَدَلِّيَ دَوَلِيِّ الْعِنَبِ فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ
وَمُرَادُهُ: تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، أَوِ الْبَعِيدَةِ مُمَثِّلًا لَهُ بِمِثَالَيْنِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ تَخْلِيصَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِالْفِدَاءِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، الَّتِي هِيَ انْتِفَاعُ الْعَدُوِّ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ لَهُمْ فِدَاءً لِلْأُسَارَى.
الثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنَ الْعِنَبِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِزَالَةِ الْعِنَبِ مِنَ الدُّنْيَا لِدَفْعِ ضَرَرِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهُ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَرْنَا قَدْ أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ مَا بِهِ يَجِيءُ الشَّرْعُ وَأَصْلُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْمَنْعُ
تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْهُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ حُجَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ تَشْدِيدَهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [٢ ٢٧٩]، وَكَانَتْ وَقْتَ نُزُولِهَا عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ مُكْتَسَبَةٌ مِنَ الرِّبَا، اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ - بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الرِّبَا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، إِذْ


الصفحة التالية
Icon