وَالْمُسَوِّغُ لَهُ فِي آيَةِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أَنَّ (مَا) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مَوْصُولَةٌ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، أَيْ وَالَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: فَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْضًا، وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ عَدَمَهُ جَائِزٌ، فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَارِيَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ.
وَمِثَالُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢ ٢٧٤] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مَا) فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ شَرْطِيَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَاقْتِرَانُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَاجِبٌ.
أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فَهِيَ مَوْصُولَةٌ لَيْسَ إِلَّا، كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -.
وَكَوْنُ (مَا) شَرْطِيَّةً عَلَى قِرَاءَةٍ، وَمَوْصُولَةً عَلَى قِرَاءَةٍ - لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ ١٠٠]. فَصَرَّحَ بِتَوَلِّيهِمْ لِلشَّيْطَانِ، أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُزَيِّنُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مُخَالِفًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِشْرَاكٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَصَرَّحَ أَنَّ الطَّاعَةَ فِي ذَلِكَ الَّذِي يُشَرِّعُهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ وَيُزَيِّنُهُ عِبَادَةٌ لِلشَّيْطَانِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِالرَّحْمَنِ، قَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مُتَّبِعُو نِظَامِ الشَّيْطَانِ دُخُولًا أَوْلِيَاءُ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [٣٦ ٦٠ - ٦٢].
ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصِيرَ الْأَخِيرَ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ ٦٣ - ٦٥]. وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [١٩ ٤٤] فَقَوْلُهُ:


الصفحة التالية
Icon