اعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِعَقِيدَةِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَوْعِهِ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ، فَأَوَّلُهُ: إِثْبَاتُ الذَّاتِ وَمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْكِمَالَاتِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ أَضْدَادِهَا وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعَ اخْتِصَارِ لَفْظِهَا دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
ثُمَّ يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيِ ضِدِّهَا مِنَ الشَّرِكَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذِهِ عُمْدَةُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى كُلِّ وَظَائِفِ الدِّينِ، ثُمَّ يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَمَوْضِعُهَا بَعْدَ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْجَائِزَةِ الْوُقُوعِ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ مِنْ بَابِ الْوَاجِبَاتِ وَبَعْدَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ كَلِمَاتُ الْعَقَائِدِ الْعَقْلِيَّاتِ، فَدَعَا إِلَى الصَّلَاةِ وَجَعَلَهَا عَقِبَ إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ وُجُوبِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
ثُمَّ دَعَا إِلَى الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ وَالْبَقَاءُ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ آخِرُ تَرَاجِمِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ. إِلَخْ.
وَمُرَادُهُ بِالْعَقْلِيَّاتِ فِي الْعَقَائِدِ أَيْ إِثْبَاتُ وُجُودِ اللَّهِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِقَانُونِ الْإِلْزَامِ، الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا جَائِزُ الْوُجُودِ أَوْ وَاجِبُهُ، فَجَائِزُ الْوُجُودِ جَائِزُ الْعَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَاسْتَوَى الْوُجُودُ وَالْبَقَاءُ فِي الْعَدَمِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ، فَتَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى بَقَائِهِ فِي الْعَدَمِ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُوجِدٍ، وَلَمْ يَجُزْ فِي صِفَةِ عَدَمٍ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ مُوجِدُهُ إِلَى مُوجِدٍ، وَمُرَجِّحُ وُجُودِهِ عَلَى مَوْجُودٍ.
وَهَكَذَا فَاقْتَضَى الْإِلْزَامُ الْعَقْلِيُّ وُجُوبَ وُجُودِ مُوجِدٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ فَقَطْ، وَقَدْ أُدْخِلَ الْعَقْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُهَا الْوُجُودُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَقْلَ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْعَقَائِدِ مِنْ حَيْثُ الْإِثْبَاتُ أَوِ النَّفْيُ ; لِأَنَّهَا سَمْعِيَّةٌ وَلَا تُؤْخَذُ إِلَّا عَنِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُرَادُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى إِدْخَالِ الْعَقْلِيَّاتِ هُنَا فَقَطْ.
وَقَدْ سُقْنَا كَلَامَ الْقَاضِي عِيَاضٍ هَذَا فِي حِكْمَةِ الْأَذَانِ لِوَجَاهَتِهِ، وَلِتَعْلَمَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْأَذَانِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلْصَلَةِ نَاقُوسٍ أَجْوَفَ، وَلَا أَصْوَاتِ بُوقٍ أَهْوَجَ، وَلَا دَقَّاتِ طَبْلٍ أَرْعَنَ، كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ الْآخَرِينَ، بَلْ هُوَ كَلِمَاتٌ وَنِدَاءٌ يُوقِظُ الْقُلُوبَ مِنْ سُبَاتِهَا، وَتُفِيقُ النُّفُوسُ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَتَكُفُّ الْأَذْهَانُ عَنْ تَشَاغُلِهَا، وَتُهَيِّئُ الْمُسْلِمَ إِلَى هَذِهِ


الصفحة التالية
Icon