الرِّيحِ، وَالطَّيْرِ، وَالْجِنِّ، فَقَالَ لِلْمُخْبِرِ وَهُوَ الْهُدْهُدُ: سَنَنْظُرُ، أَصْدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْآوِنَةِ لَسْنَا أَشَدَّ إِمْكَانِيَّاتٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ آنَذَاكَ، وَلَيْسَ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ أَقَلَّ مِنَ الْهُدْهُدِ، فَلْيَكُنْ مَوْقِفُنَا عَلَى الْأَقَلِّ مَوْقِفَ مَنْ سَيَنْظُرُ أَيُصَدِّقُ الْخَبَرَ أَمْ يُظْهِرُ كَذِبَهُ؟ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ هُوَ أَلَّا نُحَمِّلَ لَفْظَ الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ لَيْسَ صَرِيحًا فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ كَذِبُ النَّظَرِيَّةِ أَوْ صِدْقُهَا، فَنَجْعَلُ الْقُرْآنَ فِي مَعْرِضِ الْمُقَارَنَةِ مَعَ النَّظَرِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [٤١ ٤٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ.
الْمَنْصُوصُ هُنَا إِرْجَاعُ الْبَصَرِ كَرَّتَيْنِ، وَلَكِنْ حَقِيقَةُ النَّظَرِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ.
الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [٦٧ ٣].
وَالثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [٦٧ ٣].
وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [٦٧ ٤].
وَلَيْسَ بَعْدَ مُعَاوَدَةِ النَّظَرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مِنْ تَأْكِيدٍ، وَالْحَسِيرُ: الْعَيِيُّ الْكَلِيلُ الْعَاجِزُ الْمُتَقَطِّعُ دُونَ غَايَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَنْ مَدَّ طَرَفًا إِلَى مَا فَوْقَ غَايَتِهِ ارْتَدَّ خَسْآنَ مِنَ الطَّرَفِ قَدْ حَسَرَا
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ قَدْ حَسُرَ بَصَرُهُ يَحْسُرُ حُسُورًا، أَيْ: كَلَّ وَانْقَطَعَ نَظَرُهُ مِنْ طُولِ مَدًى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ حَسِيرٌ وَمَحْسُورٌ أَيْضًا.
قَالَ:
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرَفُ وَهُوَ حَسِيرُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا.
فَالدُّنْيَا تَأْنِيثُ الْأَدْنَى أَيِ: السَّمَاءُ الْمُوَالِيَةُ لِلْأَرْضِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَقِيَّةَ السَّمَاوَاتِ لَيْسَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الَّتِي هِيَ النُّجُومُ وَالْكَوَاكِبُ كَمَا قَالَ: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [٣٧ ٦]. وَيَدُلُّ لِهَذَا


الصفحة التالية
Icon