كَمَا جَاءَ فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [١٠ ٩٠]، فَقِيلَ لَهُ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [١٠ ٩١].
وَجَاءَ أَصْرَحَ مَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [٦ ١٥٨].
فَلَمَّا جَاءَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِيمَانِ مَحَلٌّ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْمُعَايَنَةِ كَحَالَةِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَإِذَا عَايَنَهَا لَمْ تَكُنْ حِينَذَاكَ غَيْبًا، فَيَفُوتُ وَقْتُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ حَدِيثُ التَّوْبَةِ: «مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
الْخَشْيَةُ: شِدَّةُ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [٢١ ٤٩].
وَبَيَّنَ تَعَالَى مَحَلَّ تِلْكَ الْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [٣٥ ٢٨] ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَيُرَاقِبُونَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى حَقِيقَةَ خَشْيَةِ اللَّهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [٢ ٧٤].
وَقَوْلُهُ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [٥٩ ٢١].
فَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمُرَاقَبَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ مَهْمَا تَخَسَّفُوا وَتَسَتَّرُوا وَهُمْ دَائِمًا مُنِيبُونَ إِلَى اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [٥٠ ٣٢ - ٣٣]، وَهَذِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ السُّلُوكِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا بَيَّنَ أَنَّهَا مَنْزِلَةُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ عَابَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ، وَيَخْشَوْنَ