كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأَلَ سَائِلٌ، قَالَ: دَعَا دَاعٍ (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ). قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ. وَالْقَائِلُ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلْدَةَ.
وَالْإِيضَاحُ الْمُنَوَّهُ عَنْهُ يُمْكِنُ اسْتِنْتَاجُهُ مِنْ هَذَا الرَّبْطِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَهَالَتِهِمْ، وَبَيَانِ مَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَذَابُ الْوَاقِعُ هَلْ وُقُوعُهُ فِي الدُّنْيَا أَمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.
وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ جَهَالَةَ قُرَيْشٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِطَلَبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ كَمَا قِيلَ:
لِمَا نَافِعٍ يَسْعَى اللَّبِيبُ فَلَا تَكُنْ سَاعِيًا.
وَأَمَّا النَّقْلُ ; فَلِأَنَّ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ وَقَدْ جَاءُوا مُتَحَدِّينَ غَايَةَ التَّحَدِّي لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الْحَقَّ، قَالُوا: آمَنَّا، وَخَرُّوا سُجَّدًا وَلَمْ يُكَابِرُوا، كَمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَئِهِمْ فِي كِتَابِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى وَلَمَّا اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ، وَقَالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، قَالُوا وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ هُنَا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا) وَلَمْ يُبَالُوا بِوَعِيدِهِ وَلَا بِتَهْدِيدِهِ. وَقَالُوا فِي اسْتِخْفَافٍ: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) [٢٠ ٧٠ - ٧٢]، فَهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الْبَيِّنَاتِ خَرُّوا سُجَّدًا وَأَعْلَنُوا إِيمَانَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ.
أَمَّا وُقُوعُ الْعَذَابِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ ; لِلتَّأْكِيدِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَكَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَقَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ: هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [١٦ ١].
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ. أَمَّا مَتَى يَكُونُ فَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ (الطُّورِ) نَظِيرُةُ هَذِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [٥٢ ٧ - ٨]، ثُمَّ بَيَّنَ ظَرْفَ وُقُوعِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [٥٢ ٩ - ١٠]، وَفِي سِيَاقِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ