وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَاتِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [٢ ١٨٥]، فَجَمِيعُ الشُّهُورِ مِنْ حَيْثُ الْزَمْنُ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ بِمُنَاسَبَةِ بَدْءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الشَّهْرِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَأَكْرَمَ فِيهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بَلِ الْعَالَمَ كُلَّهُ، فَتَتَزَيَّنُ فِيهِ الْجَنَّةُ وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الْأَعْمَالُ.
وَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ مِنْهُ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْبَدْءُ اخْتَصَّهَا تَعَالَى عَنْ بَقِيَّةِ لَيَالِي الشَّهْرِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [٩٧ ١] السُّورَةَ بِتَمَامِهَا.
مَسْأَلَةٌ.
لَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي اعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْإِسْلَامِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَوَقَعَ فِيهَا الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ، وَكَمَا قِيلَ:
كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَمُنْطَلَقًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، نُقَدِّمُ هَذِهِ النُّبْذَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي الشَّرْعِ وَأَحْدَاثِ الْإِسْلَامِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، أَيْ فِي عُمُومِ الْأُمَمِ وَخُصُوصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، نَجِدُ الْمُنَاسَبَاتِ قِسْمَيْنِ: مُنَاسَبَةٌ مُعْتَبَرَةٌ عُنِيَ بِهَا الشَّرْعُ لِمَا فِيهَا مِنْ عِظَةٍ وَذِكْرَى تَتَجَدَّدُ مَعَ تَجَدُّدٍ الْأَيَّامِ وَالْأَجْيَالِ، وَتَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ بِالتَّزَوُّدِ مِنْهَا. وَمُنَاسَبَةٌ لَمْ تُعْتَبَرْ، إِمَّا لِاقْتِصَارِهَا فِي ذَاتِهَا وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْأَفْرَادِ مُسَايَرَتَهَا.
فَمِنَ الْأَوَّلِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَتَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْيَوْمِ فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ»، وَكَلَامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَقَدْ عُنِيَ بِهَا الْإِسْلَامُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمُنَوَّهِ عَنْهَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى أَدَائِهَا وَالْحَفَاوَةِ بِهَا مِنَ اغْتِسَالٍ وَطِيبٍ وَتَبْكِيرٍ إِلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ».
وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا إِفْرَاطٍ، فَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِهَا وَحْدَهُ، دُونَ أَنْ يُسْبَقَ بِصَوْمٍ قَبْلَهُ، أَوْ يُلْحَقَ بِصَوْمٍ بَعْدَهُ، كَمَا نَهَى عَنْ إِفْرَادِ لَيْلَتِهَا بِقِيَامٍ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ مُتَضَافِرَةٌ ثَابِتَةٌ، فَكَانَتْ مُنَاسَبَةً مُعْتَبَرَةً مَعَ اعْتِدَالٍ وَتَوَجُّهٍ إِلَى اللَّهِ، أَيْ بِدُونِ إِفْرَاطٍ أَوْ تَفْرِيطٍ.