قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [١٧ ٧١]، وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلُ الْيَمِينِ وَأَهْلُ الشِّمَالِ، وَأَحَالَ عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [١٨ ٤٩]، فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَهُنَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَةً مِنْ حَالَاتِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ.
فَالْأُولَى: «يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا» وَهُوَ الْعَرْضُ فَقَطْ دُونَ مُنَاقَشَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ».
وَالثَّانِيَةُ: يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِالثُّبُورِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُ: الْمُوَاطَأَةُ عَلَى الشَّيْءِ، سُمِّيَتْ مُثَابَرَةً، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ فِي طَلَبِهِ.
وَهُنَا مُقَابَلَةٌ عَجِيبَةٌ بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ، وَذَلِكَ بَيْنَ سُرُورَيْنِ أَحَدُهُمَا آجِلٌ، وَالْآخِرُ عَاجِلٌ.
فَالْأَوَّلُ فِي حَقِّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا يُنَادِي فَرَحًا: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [٦٩ ١٩]، وَأَهْلُهُ آنَذَاكَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَمِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [١٣ ٢٣].
وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [٥٢ ٢١]، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُلْحَقِينَ بِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ يَعْرِفُهُ مِنْ أَهْلِهُ، وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ سُرُورَ الْعَبْدِ، وَهُوَ السُّرُورُ الدَّائِمُ.
وَالْآخَرُ سُرُورٌ عَاجِلٌ، وَهُوَ لِمَنْ أُعْطُوا كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَلِهِمْ مَسْرُورِينَ فِي الدُّنْيَا، وَشَتَّانَ بَيْنَ سُرُورٍ وَسُرُورٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا نَتِيجَةَ سُرُورِ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ سَعِيرًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ سُرُورِ الْآخَرِينَ، وَلَكِنْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ خَوْفُهُمْ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [٥٢ ٢٦ - ٢٨].
وَهُنَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْمَعْ عَلَى عَبْدِهِ خَوْفَانِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْأَمْنَانِ مَعًا،


الصفحة التالية
Icon