خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يَوْمَئِذٍ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَالْأَصْلُ إِقْرَارُ الْكَلَامِ عَلَى نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ، لَا تَغْيِيرُ تَرْتِيبِهِ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ قَرِينَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ وُجُوهَ الْأَشْقِيَاءِ وَوُجُوهَ السُّعَدَاءِ فِي السُّورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [٨٨ ٨ - ١٠]، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ يَوْمُ الْآخِرَةِ: فَالْوَاجِبُ تَنَاظُرُ الْقِسْمَيْنِ، أَيْ: فِي الظَّرْفِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ نَظِيرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [٧٥ ٢٢ - ٢٥]، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [٨٠ ٣٨ - ٤٢]، وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفٌ لِلْوُجُوهِ فِي الْآخِرَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ أَصْحَابُهَا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْوُجُوهِ بِالْعَلَامَةِ كَقَوْلِهِ: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [٤٨ ٢٩]، وَقَوْلِهِ: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [٤٧ ٣٠]، وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَقْصُودِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: «خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ»، لَوْ جُعِلَ صِفَةً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ ذَمٌّ ; فَإِنَّ هَذَا إِلَى الْمَدْحِ أَقْرَبُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِهِ الْكَافِرِينَ، وَالذَّمُّ لَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَوْ أُرِيدَ الْمُخْتَصُّ لَقِيلَ: خَاشِعَةٌ لِلْأَوْثَانِ مَثَلًا، عَامِلَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، نَاصِبَةٌ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمٌّ لِهَذَا الْوَصْفِ مُطْلَقًا وَلَا وَعِيدٌ عَلَيْهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خُرُوجٌ عَنِ الْخِطَابِ الْمَعْرُوفِ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ أَقْوَاهَا فِي الْمَعْنَى، وَأَوْضَحِهَا دَلَالَةً.
وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الْعَوَامُّ الْمَغْرُورُونَ بِغَيْرِهِمْ، وَيَنْدَمُونَ غَايَةَ النَّدَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [٤١ ٢٩].
السَّادِسُ: - وَهُوَ مُهِمٌّ أَيْضًا - أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; لَكَانَ خَاصًّا بِبَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ