فَهَا هُوَ هُنَا يَجْعَلُ عَتَقَ الرَّقَبَةِ، سُلَّمَ اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، وَجَعَلَهُ عِتْقًا لِلْمُعَتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَسْعَى لِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ كَفَّارَةً لِكُلِّ يَمِينٍ وَلِلظِّهَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، كُلُّ ذَلِكَ نَوَافِذُ إِطْلَاقِ الْأُسَارَى، وَفَكُّ الرِّقَابِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لِلِاسْتِرْقَاقِ إِلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، هُوَ الْأَسْرُ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَا غَيْرَ، وَهُمَا مِمَّا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ رَدًّا عَلَى الْمُسْتَشْرِقِينَ وَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ ; فِي ادِّعَائِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ مُتَعَطِّشٌ لِاسْتِرْقَاقِ الْأَحْرَارِ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩] فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [٩٠ ١٤]. أَيْ: شِدَّةٍ وَجُوعٍ. وَالسَّاغِبُ: الْجَائِعُ ; قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:

فَلَوْ كُنْتَ جَارًا يَا بْنَ قَيْسٍ لِعَاصِمٍ لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبًا
أَيْ: لَوْ كُنْتَ جَارًا بِحَقٍّ تَعْنِي بِحَقِّ الْجَارِ، لَمَا حَدَثَ لِجَارِكَ هَذَا.
وَهَذَا الْقَيْدُ لِحَالِ الْإِطْعَامِ ; دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ، وَتَقْدِيمِ مَا عِنْدَ اللَّهِ ; عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [٧٦ ٨]، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ أَنَّهُ لِلطَّعَامِ، وَهَذَا غَالِبٌ فِي حَالَاتِ الشِّدَّةِ وَالْمَسْغَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [٥٩ ٩]، فَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْفَضِيلَةِ فِي الْإِطْعَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، فَالْيَتِيمُ مَنْ حُرِمَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَقَدْ خَصُّوا فِي اللُّغَةِ يَتِيمَ الْحَيَوَانِ، مَنْ فَقَدَ الْأُمَّ، وَفِي الطُّيُورِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْإِنْسَانِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَ.
وَ «ذَا مَقْرَبَةٍ» : أَيْ: قَرَابَةٍ، وَخُصَّ بِهِ ; لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَعَلَى الْبَعِيدِ صَدَقَةٌ فَقَطْ».


الصفحة التالية
Icon