تَأَمَّلَهُ الْعَاقِلُ لَوَجَدَ فِيهِ كَمَا أَسْلَفْنَا الْقُدْرَةَ الْبَاهِرَةَ، أَعْظَمُ مِمَّا فِي اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَمَا فِي النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صَغُرَ الْكَائِنُ: كَالْبَعُوضَةِ فَمَا دُونَهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُرَى بِالْعَيْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ. سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَا أَعْظَمَ شَأْنُكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [٩١ ٩ - ١٠]، وَكِلَاهُمَا بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُنَا يَقُولُ: «إِنَّ سَعْيَكُمْ» مَهْمَا كَانَ «لِشَتَّى»، أَيْ: مُتَبَاعِدٌ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ.
وَالشَّتَاتُ: التَّبَاعُدُ وَالِافْتِرَاقُ، وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ، كَمَرْضَى وَمَرِيضٍ، وَقَتْلَى وَقَتِيلٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَ مَا | يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَلَّا تَلَاقِيَا |
ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الشَّتَاتَ فِي التَّفْصِيلِ الْآتِي: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
وَمَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْعَطَاءِ، وَالْبُخْلِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالْيُسْرَى، وَالْعُسْرَى، وَقَدْ أَطْلَقَ: «أَعْطَى» ; لِيَعُمَّ كُلَّ عَطَاءٍ مِنْ مَالِهِ وَجَاهِهِ وَجُهْدِهِ حَتَّى الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ، بَلْ حَتَّى طَلَاقَةَ الْوَجْهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ». وَالْحُسْنَى: قِيلَ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: لِلْخَلَفِ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ.
وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ هُوَ الْأَخِيرُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [١٠ ٢٦]، فَقَالُوا: الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَهَذَا