جَاءَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» مَعَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا مُحَرَّمًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُمْ وَرَفْعٌ لِمَنْزِلَتِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتُوبُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».
فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ جَاءَ: «نَعِمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»، وَهُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَدُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ، وَيَعْتَبِرُ ذَنْبًا يَسْتَثْقِلُهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، كَمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ».
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، إِلَّا مَا قِيلَ شُعُورُهُ بِتَرْكِ الذِّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، اسْتَوْجَبَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ الْجُنَيْدِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْضِ اجْتِهَادَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ، فَيُرَدُّ اجْتِهَادُهُ فَيَعْظُمُ عَلَيْهِ: كَقِصَّةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعُوتِبَ فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى الْآيَةَ [٨٠ ١ - ٢]، وَنَظِيرِهَا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [٩ ٤٣]، وَقِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [٣ ١٢٨]، وَاجْتِهَادِهِ فِي إِيمَانِ عَمِّهِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [٢٨ ٥٦] وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْوِزْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ يُثْقِلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» نَعَمْ «، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْرَاءَ».
فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظِعَ، وَالْفَظَاعَةُ: ثِقَلٌ وَحُزْنُ، وَالْحُزْنُ: ثِقَلٌ. وَتَوَقُّعُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


الصفحة التالية
Icon