قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.
الْأُسْوَةُ كَالْقُدْوَةِ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْغَيْرِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، وَهُنَا أَيْضًا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [٦٠ ٤].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا التَّأَسِّي الْمَطْلُوبَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ.
فَالتَّأَسِّي هُنَا فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: التَّبَرُّؤُ مِنْهُمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
ثَانِيًا: الْكُفْرُ بِهِمْ.
ثَالِثًا: إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَإِعْلَانُهَا وَإِظْهَارُهَا أَبَدًا إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَبَدًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ انْتَفَى كُلُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ.
وَهُنَا سُؤَالٌ، هُوَ مَوْضِعُ الْأُسْوَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ فَقَائِلُ الْقَوْلِ لِقَوْمِهِمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا مَحَلُّ التَّأَسِّي بِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ لِقَوْمِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ مَوْضِعَ التَّأَسِّي، وَمَوْضِعُ التَّأَسِّي الْمَطْلُوبِ فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ مَا قَالَهُ مَعَ قَوْمِهِ الْمُتَقَدِّمِ جُمْلَةً، وَمَا فَصَّلَهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [٤٣ ٢٦ - ٢٧] وَهَذَا التَّبَرُّؤُ جَعَلَهُ بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [٤٣ ٢٨].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ هَذَا


الصفحة التالية
Icon